عالَم المثل عندَ أفلاطون
كان سقرَاط قد قَال أن معرفة الماهيَات هي المعرفَة الحقيقيَة، وعندَما جاء أفلاطُون وتساءل عَن مصدر المعرفَة، رفع هذهالماهيَات إلى مقَام الوجُود الحقيقي، وسلب كل شيء دونهَا أي حق في الوجود. وقد فعل ذلِك في نظرية المثُل.
المثل (أو الصّوَر) حقَائق كلية ثابتة موجودَة بالفعل وجُودًا خارجيًا مفارقًا مستقلا عن الإنسَان، هي في وقت واحد مصدَر للمعرفَة وعلّة لهاَ، كما هي مصدَر لوجود الأشياء في العَالم المحسوس وعلة له. فلو قلنا مثلاً إن على الجمَال في الزهرة هو شكلُها أو لونها لفسّرنا الجمَال بعلّة ليست دائمًا سببا للجَمال. فهذا الشّكل أو اللون قد يكون سبب قبح أيضًا في أشياء أخرى. وكذلك لو قلنا أن هذه النبتَة طويلَة لأنهَا بلغت مترًا مثلا، فهذَا المتر قد يَكُون سببًا للقصر في غيرِهَا. فكيف يكون المتر علة للطول وللقصر في آن واجد؟ إنمَا علة الطول في الأشيَاء هو مثَال الطّول، وذلك علة الجمَال مثال الجمَال. فهناك مثال للطول ومثال للجمال في عالم غير هَذا العالم المحسوس هو السبب في طول الأشياء أو جَمالها.
وهنَاك دليل آخر على وجُود المثل، وهو أن المدركات الكلية لا تدرك بالحس كمَا هو معلوم. فالجمَال مثلا مدرَك كلي نستنبطه بعد النّظر في شق الأشياء الجميلَة، فلولا أن في أذهاننا فكرة سابقَة عن الجَمال لما عرفنا أن هذه الأشياء بالذات تشترك في الجَمال.وهذه الفكرة السابقَة إما ألا يكون لها وجود في الخارج فتكون حينئذ من اختراع العقل، وبذلك تكون شيئًا نسبيا مقيسًا بمقياس شخصِي، وهكذا يصبح الإنسان مقياس كل شيء كما يقول السفسطائيون، وإما أن يكون لهذه الفكرَة السابقَة وجود خارجي مستقل عنّا. ولما كانت أقوال السفسطائيين باطلَة حسب أفلاطونوسقراط من قبله، لم يبق إلا أن نسلم بأن فكرة الجمَال الموجودة في العقل إنما تطابق شيئًا في الخارج تمام المطابقَة هو مثَال الجمَال. ففي العالم الخارجي، عالم المثل، جمال في ذاته مستقل عن عقل الإنسان، ولو لم تكن نفوسنا مدركَة لهذَا المثَال لما استطاعت أن تدرك الشيء الجميل. ذلك أن نفوسنا قبل حلولها في الأجسام كانت - حسب أفلاطون - تعيش في عالم غير هذا العالم، عالم علوي أزلي سام وشريف هو عالم المثل، ثم أُهبطت إلى العالم الأسفل لجريمة اقترفتها. فإذا رأت شيئا جميلا على هذه الأرض تذكرت مثال الجمال في عالم المثل. فالعلم إذن هو تذكّر، والجهل نسيان ( راجع نظرية المعرفة عند أفلاطون لتفاصيل اكثر). وما يصدق على الجمال يصدق على العلم والحق والخيروسائر المعقولات الكلية.
وهكذَا فلكل شيء مثاله ( الشجرة، النار، العدالة، الحب، القِصَر، الأبيض..) وهذه المثل مرتبة بشكل هرمي تصاعدي بحيث يشمل كل منها جميع ما دونه، إلى أن ينتهي هذا النظام إلى مثال الخير، وهو المثَال الأعلَى حقيقَة الحقائق وجَوهَر الوجُود، ومنه تستَمدّ جميع المُثل وجُودهَا وقيمتهَا، و معهَا الوجود بأكمله.
لقد أوضح أفلاطون مستعينًا برمز الشمس ( كتاب الجمهورية) أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف الوجود إلا على ضوء الخير: "إن موضوعات المعرفَة لا تكتسب من الخير إمكانية أن تصير معروفة و حسب، بل وجودها وماهيتها أيضًا، أما هو فليس موجودًا وحسب، بل إنه يعلوها سموًا وقوة".
أمثولة الكهف/ تشبيه الكهف
يقول أفلاطُون إنه يمكنُ أن نتصور كَهفًا تحت الأرض له فتحة إلى الخارج، ويعيش في جوفه رجال مقيدَة سيقانهم والرقاب وذلكمنذُو كانوا أطفالا، وقيودهم تعوقهم عن الحركة وعن النظر إلا إلى الأمام. وتضيء الكهف نار قائمَة على مكان مرتفع بعيدًا خلف المسجونين، ويقوم بينها وبينهم طريق مرتفع عليه يقوم حائط صغير، ولنتصور أن هناك من يسير خلف الحائط حاملا أشياء من كل نوع، وتماثيل للرجال وللحيوانات على كل شكل. بحيث يعكس نور النار ظلالها على جدار الكهف الذي ينظر إليه الرجال المقيدون، ومن الطبيعي ألا يكون المسجونون قد استطاعوا طوال حياتهم أن يدركوا شيئا غير هذه الظلال.
وهكذا نجد في داخل الكهف: الظلال، تماثيل الأشياء، النار. أما خارج الكهف فلنتصور أن هناك الأشياء الحقيقية، وانعكاساتها على سطح لامع كالماء وأن هناك أخيرا الشمس، فيكون لدينا هنا أيضا درجات ثلاث تقابل الثلاث الأولى التي في داخل الكهف. والآن فإن داخل الكهف يمثل العالم الحسي المحيط بنا، أما خارجه فإنه يمثل العالم العقلي.
إذا حدث وتحرر أحد المسجونين فإنه سيعاني من آلام أثناء تحريك رقبته التي كانت مقيدة طوال الوقت، وحين النظر إلى ضوء النار، بل إن عينيه ستؤلمانه لدرجة أنه سيسرع بالهرب من الضوء إلى ما تعود أن يرى، وسيعتبر أن إدراك الظلال كان أوضح بكثير (لذلك يطمئن البعض إلى الحواس)، لكن إذا ما تسلق المرتفع الصعب الذي يفصل الكهف عن خارجه، وخرج إلى ضوء الشمس، أفلن يؤلمه ضوء هذا أشد الألم؟ وأنه لن يكون قادرا على تمييز أي شيء؟ لذلك عليه أن يمضي فترة يتعود فيها على هذا العالم الجديد، وأن يمر أولا بإدراك ظلال الأشياء الحقيقية ثم بإدراك هذه الأخيرة ثم إدراك الشمس في مرحلة أخيرة.
وعند ذلك سيدرك أن الشمس هي مصدر وجود الأشياء، وأن نورها هو مصدر معرفتها، ولكنه سيدرك كذلك أن الشمس هي أيضا علة كل شيء في داخل الكهف نفسه، فالنار تأتي منها، والتماثيل تماثل الأشياء التي هي مصدر وجودها، و إدراك ظلال الأشياء الحقيقية خارج الكهف يقابل المعرفة الرياضية، ومعرفة الأشياء نفسها تقابل معرفة المثلُ، إما إدراك الشمس فهو يقابل الوصول إلى مبدأ الخير.
وختاماً، فهذا السجين المتحرر، الفيلسوف الذي تحرر من قيود الحس ووصل إلى إدراك الوجود العقلي، لم يعد يلقي أي اهتمام إلى معارف رفاقه القدامى، ولا إلى موضوعات هذه المعرفة، فهي ليست إلا ظلالا بغير حقيقة. هذه المعارف تمثل الفلسفة الطبيعية التي اهتمت بعالم الحس وحده، لكن أفلاطون يضيف إضافة هامة: ذلك أنهلوحدث وتناول السجين المحرر المسائل التي تشغل الفلاسفة الطبيعين فسيكون أقدر منهم بكثير في معالجتها، لأنه سيكون قد أدرك الحقيقة نفسها، مما يسهل عليه معرفة ما هو مجرد صورة منها. و هكذا فالطريق مفتوح أمام الفيلسوف لدراسة العلم الطبيعي، وهو ما سيفعله أفلاطون في محاورة طيماوس وهي إحدى محاوراته الأخيرة.
نظرية المعرفة عند أفلاطون
رأينا في فقرة سابقة أن العلم هو عملية تذكر، حيث أن أفلاطون يقدم نظريته في تفسير ظاهرة المعرفة، وهي نظرية التذكر. ويقدمها في محاورة مينون كالتالي: " لما كانت النفس خالدة، ولما كانت قد عاشت حيوات متعددة، ورأت كل شيء في هذا العالم وفي هاديس (العالم الآخر التحتي)، فإنها تكون قد عرفت كل شيء ، وهكذا لا تكون معرفتها في هذا العالم إلا تذكرا لما كانت قد تعلمته من قبل"، لكن هذه النظرية التي وردت في مينون تتطور فيما بعد ليربطها بنظريته في عالم المثل، حيث أصبحت كل معرفة ترجع إلى ذكريات تحفظها النفس مما سبق لها أن شاهدته أثناء وجودها في عالم المثل وقبل أن تحل في البدن. ومن الواضح أن هذه النظرية تجد أصولها في المنهج السقراطي، حيث أن سقراط كان يعتمد على أسلوب التوليد، الذي يوجه من خلاله أسئلة بطريقة منظمة تسمح للشخص باستخراج الحقائق من نفسه بشكل ذاتي حيث ان الحقيقة كامنة في نفسه وكل ما يحتاج إليه هو استخراجها. وقد أوردأفلاطون في محاورة مينون صورة أولية لهذه العملية حيث يدعو سقراط أحد عبيد مينون، وكان شابا صغيرا لم يكن قد تعلم الرياضيات من قبل، ولكن يجعله سقراط من خلال أسئلته المنظمة يتوصل إلى حل إحدى المشكلات الهندسية، فيكتشف مينون أن أفكار هذا العبد حول المشكلة الهندسية كانت في نفسه قبل أن يسأله سقراط.
هذا ويقول أفلاطون أن أنواع المعرفة اربعة، أولها الأحساس وهو إدراك ظواهر الأجسام وأشباحها في اليقظة وصورها في المنام. الثاني الظن، وهو الحكم على المحسوسات بما هي كذلك. والثالث الاستدلال. وهو علمالماهيات الرياضية المتحققة في المحسوسات وترتقي إليه النفس بدراسات الحساب والهندسة والفلك والموسيقى. والرابع التعقل وهو إدراك الماهيات المجردة في كل مادة. وهذه الانواع مرتبة الواحد تلو الآخر تنتقل النفس من الواحد إلى الذي يليه إلى أن تطمئن عند الأخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق